الاستعباد المقنَّع.. كيف يصنع نظام الكفالة في لبنان وجهاً جديداً للعبودية الحديثة؟

الاستعباد المقنَّع.. كيف يصنع نظام الكفالة في لبنان وجهاً جديداً للعبودية الحديثة؟

في وقت صُنف لبنان في المرتبة السادسة بين الدول العربية على مؤشر "العبودية الحديثة"، جاءت قضية العاملة الإثيوبية "ميسيريت هايلو" لكي تفتح الباب من جديد على قصص عاملات وعمال كثر يعانون من استعباد مُقنّع نتيجة "نظام الكفالة"، فبينما لا يوجد عقد عمل موحد لدى الدولة اللبنانية يلحظ العاملات الأجنبيات، يتم تنظيم وضعهن من خلال نظام الكفالة، مع ما يلحقه من انتقادات من جهات حقوقية، خاصة أن المادة 7 من قانون العمل اللبناني تستثني على وجه التحديد العمال المنزليين المهاجرين، وتحرمهم من الحماية التي يحق للعمال الآخرين الحصول عليها.

أمل بعد معاناة

في عام 2020، رفعت جمعية "الحركة القانونية العالمية" دعوى قانونية تتعلّق بالانتهاكات التي تعرّضت لها "هايلو" أثناء عملها كعاملة منزلية في لبنان، وتضمنت الدعوى اتهامات بارتكاب جرائم عدة، وذلك على مدى أكثر من ثماني سنوات، وفي شباط 2024، بدأت جلسات استجواب المدعى عليها، وجرى تمديد الاستجواب نظراً لجدّية وخطورة التهم الموجهة.

وفي هذا السياق، توضح وكيلة المدعية المحامية غادة نقولا، من الحركة القانونية العالمية، أن العاملة هايلو "جاءت من إثيوبيا وأعطيت وعود خاطئة من قبل الوسيط، الذي هو صاحب مكتب استقدام العاملات الأجنبية، خاصة لجهة الأجور وطبيعة العمل، علما أنه تم مصادرة جواز سفرها بمجرد وصولها إلى المطار.. وقد عملت لـ8 سنوات من دون أي إجازات، كما أنها لم تتمكن من التواصل مع أهلها إلا بعد فترة طويلة.. ولم تتلق أجرا لنحو 7 سنوات.. وحتى إنها حاولت العودة إلى بلدها مرارا، ولكن طلبها يرفض دائما”. 

تفاصيل الدعوى

تكشف نقولا في حديث مع "جسور بوست" أن "هايلو تمكنت من المثول أمام قاضية التحقيق (في مايو 2025) لمواجهة كفيلها السابق الذي تتهمه بالاستعباد في جلسة تعتبر الأولى من نوعها في لبنان.. حيث استجوبت القاضية كل من الضحية والمدعى عليها".

 وتضيف "القاضية ستدرس الملف وستدقق في إفادة كل من المدعية والمدعى عليها لتتحقق من التهم. وإذا ما ثبتت التهم فستحال الدعوى إلى المحكمة الجزائية، وإلا سيتم إغلاق الملف. وفي كل الحالتين، سيؤدي ذلك إلى إحداث أثر ملموس، كون القضية ستثير النقاش حول نظام الكفالة والمشكلات التي تحدث".

وترى نقولا أن "قضية هايلو تعتبر قضية تقاضٍ استراتيجية ولها هدفان، أولهما إحداث تغيير في المجتمع والثاني هو إلغاء نظام الكفالة، فهذه القضية تسلط الضوء، لأول مرة، على التصرفات التي تتعرض لها العاملات المهاجرات في الخدمة المنزلية في لبنان"، مشيرة إلى أن جزء من القضية يهدف إلى "تشكيل رادع لأصحاب العمل تحت إحتمالية ملاحقتهم قانونيا من جهة والضغط على الدولة اللبنانية لإلغاء نظام الكفالة من جهة أخرى، لأن حظر استعباد البشر من مبادئ القانون الدولي".

الإفلات من العقاب

وتتابع: "هذه القضية قد تُنهي شعور الإفلات من العقاب الذي يتمتع به أصحاب العمل حتى الآن والذي أدى إلى انتهاكات عديدة لا تحصى، علما أنه في حال أحيلت القضية إلى المحكمة فإنها ستشكل سابقة قانونية في لبنان وفي أماكن أخرى، فالدعوى غير موجهة فقط ضد الكفيل ووكالة التوظيف، بل هي تشكل رسالة لأصحاب العمل في لبنان والمنطقة، ومفادها بأنهم سيحاسبون على الجرائم التي ارتكبوها خاصة إذا ما شملت الاستعباد".

تشجيع العمال على الشكوى

ورداً على سؤال حول المطلوب لتشجيع العمال الأجانب للتقدم بشكاوى في حال وقوع الظلم عليهم وتعرضهم للعبودية الحديثة، توضح نيقولا أنه يوجد في "لبنان الكثير من عاملات منازل والوحيدة التي تقدمت بالدعوى هي هايلو.. إذ كان لجمعيتنا فرصة التواصل ومعرفة قصتها، ولكن هناك كثير من العمال تبقى قصصهم غير معروفة، وذلك بسبب عدم معرفتهم بالإجراءات القانونية، فمثلا العاملات الأجنبيات لا يعرفن أن ما يتعرضن هو عنف أو استعباد وغير ذلك، وبمعنى آخر، هنّ لا يعرفن حقوقهن لكي يطالبن بها، عدا أن تضييق أصحاب العمل على العاملات لا يتيح لهن الوصول إلى الخدمات الاجتماعية والقانونية أو حتى الطبية، إلى جانب الممارسات التي يتعرضن لها من قبل أصحاب المكاتب التي تستقدمهن للعمل في لبنان، وهكذا نجد أنهن لا يبادرن لأخذ حقوقهن".

وتختم "كثر من العاملات سيستفدن من تسليط الضوء على قضية هايلو، إذ سيعرفن حقوقهن أكثر وسيتشجعن على رفع صوتهن، وسيبحثن عن جمعيات وحقوقيين لكي يحصلن على مساعدة".

ووفقًا لتقديرات منظمة العمل الدولية، يوجد في لبنان ما لا يقل عن 250 ألف عاملة منزلية مهاجرة، وتبدأ كلفة استقدام العاملة المنزلية بشكل شرعي من 2000 دولار وصولاً إلى نحو 6000 دولار، ويصل سعر أجر العاملة الجاهزة، بحسب تقارير إعلامية، إلى نحو 800 دولار، ولا يقلّ عن 400 دولار، وهو أجر يتقاسمه المكتب والعاملة.

تجاوزات عديدة 

توضح رئيسة الشؤون القانونية والمناصرة في قسم مناهضة الاتجار بالبشر في منظمة كفى المحامية موهانا اسحق أن "نظام الكفالة يعتبر نظام استعبادي، إذ تشوبه الكثير من ممارسات الاستعباد التي تبدأ من تاريخ الاستقدام للعامل من دولته، وما يشمله ذلك من خداع في نوع العمل أو تزوير الأوراق الثبوتية للعمال لناحية رفع أعمارهم إذ يكونون في العادة القاصرين.. وفور وصولهم إلى لبنان يتم سحب أوراقهم من قبل الكفيل وتشغيلهم في المنازل في ظروف غير إنسانية تتعارض مع مبادئ حقوق العمال". 

وتتابع في حديث مع "جسور بوست" شارحة الواقع المزري فتقول "وأيضا يتم احتجازهم في المنازل فلا يتمتعون بحرية التنقل والتواصل مع الآخرين، ولا تحدد لهم ساعات عمل محددة أو ساعات راحة حقيقية. كما يتعرضون للضرب والعنف المعنوي وحتى الجنسي كالتحرش والاغتصاب. عدا عن أن صاحب العمل يمنعون عنهم أجورهم.. فتتراكم الأجور التي لا تدفع لهم على مدى أشهر. وهناك حالات تصلنا إلى منظمة كفى لأشخاص لم يتلقوا رواتب منذ 5 أو 10 سنوات".

وتضيف اسحق "إلى ذلك، يتم إلزام هؤلاء على تجديد عقودهم، وفي هذه الحالة لا تستطيع مثلا العاملة المنزلية أن تفسخ العقد لتنتقل للعمل في منزل آخر إلا بموافقة صاحب العمل (الأول) الذي ينتهك حقوقها.. إذ يجب عليها أن تحصل منه على مستند يتنازل فيه عن كفالتها لمصلحة صاحب العمل الآخر، وهذا يشكل صورة واضحة للاستعباد ولكن بطريقة مقنعة. مع التذكير بأن نظام الكفالة ليس نظاما مكتوبا، بل هي ممارسات عرفية اعتاد المجتمع على تطبيقها وهي تتم دون رقابة من السلطات المختصة وعلى رأسها وزارة العمل. وبالتالي، تغيب محاسبة للمنتهكين".

ومن أجل التخلص من نظام الكفالة ترى اسحق أنه "يجب إيجاد نصوص تشريعية تلغي أو تفرض جزاءات على الممارسات وتدخل هذه الفئة العمالية ضمن قانون العمل لكي يصبحوا فئة تتوازى مع كل العمال في الحقوق والواجبات. على أن يكون لديهم حق فسخ العقد وإلا نكون أمام عمل قسري، وهذا شكل من أشكال الاتجار بالبشر".

يذكر أنه في عام 2020، أطلقت وزارة العمل اللبنانية عقد عمل موحد لحماية عاملات المنازل المهاجرات، يضمن حقوقًا مثل الحد الأدنى للأجور وحق فسخ العقد. لكن سرعان ما جُمِّد تنفيذ العقد بقرّار من مجلس شورى الدولة، بعد طعن من نقابة أصحاب مكاتب الاستقدام به.

خطوات حكومية منتظرة

وفي وقت تلقى وزارة العمل اللبنانية اتهامات من جهات عدة بتجاهل حقوق العمال المهاجرين وخصوصا عاملات المنازل، توصي الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، وهي جهة لبنانية رسمية، بضرورة إصلاح قانون الكفالة وحماية حقوق العمّال الأجانب عبر "إلغاء نظام الكفالة وإعادة هيكلة سوق العمل اللّبناني بما يضمن حقوق العمّال والعاملات الأجانب ويحميهم من الاستغلال"، داعية في حديث مع "جسور بوست" إلى "توفير آليّات قانونيّة لضمان حصول العمّال والعاملات الأجانب على الأجر العادل وظروف العمل المناسبة، وكذلك ضمان حرّية تحركهم وعدم احتجاز جوازات سفرهم. بالإضافة إلى تخصيص فرق من المحامين لتقديم الدّعم القانوني للعمّال والعاملات الأجانب في لبنان لحفظ حقوقهم".

وبحسب تقرير للهيئة، فإن 13 عاملة منزليّة إثيوبية تقدمن عام 2024 بدعاوى منفصلة ضد أرباب عملهنّ، متّهمات إيّاهم بإساءة المعاملة ومنعهنّ من التّواصل مع أسرهنّ، بالإضافة إلى حرمانهنّ من رواتبهنّ لسنوات طويلة إضافةً إلى تعرّض بعضهنّ للتّعنيف الجّسدي والنّفسي.

تجاوزات مستمرة

وذكرت منظمة "لبنان 961 This is Lebanon" المعنية برصد الانتهاكات بحق العاملات الأجنبيات في حديث مع "جسور بوست" أنه "حتى منتصف عام 2025 تم تسجيل انتهاكات عدة توزعت على الشكل التالي: 18 إساءة بحق العاملات من وكالات الاستقدام، 17 إساءة جنسية، 12 حالة مرض، 13 حالة حرمان من الطعام، 12 حالة إساءة جسدية و35 حالة عدم دفع الراتب".

في عام 2024، تلقّت وزارة العمل 31 شكوى تتعلّق بحرمان عاملات الخدمة المنزلية من أجورهن وحجز أوراقهن الثبوتية، وقد تم تسجيل هذه الشكاوى لدى السفارات والجمعيات غير الحكومية.. كما قامت الوزارة بإدراج 8 أصحاب عمل على اللائحة السوداء بسبب عدم تعاونهم مع دائرة التفتيش التي باشرت النظر في هذه الشكاوى.. بالإضافة إلى ذلك، استقبلت الوزارة 38 شكوى من أصحاب العمل ضد مكاتب استقدام العاملات، ما أدى إلى تجميد عمل 7 من هذه المكاتب، علما أنه في لبنان ما لا يقل عن 500 مكتب استقدام يستقدمون آلاف العاملات سنويا من إفريقيا وشرق آسيا. 

وتنتقد منظمة الأمم المتحدة نظام الكفالة المعتمد في عدد من دول الشرق الأوسط وتدعو إلى إلغائه، مع السماح للعامل الأجنبي بتغيير صاحب العمل بحرية أو مغادرة البلاد التي يعمل بها. كما أن الاتفاقية الدولية لإلغاء الرق لعام 1926، والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يحظران العبودية ويصنّفانها جريمة ضد الإنسانية. علما أن لبنان وقّع على هذه الاتفاقيات، وهو بالتالي ملزم بتطبيقها ومحاسبة مرتكبي هذه الانتهاكات.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية